مكفوفون فى النور
«العقل السليم فى الجّسم» مقولة قد تراها مخطوطة على جدران بِناية أو داخل أحد الفصول الدراسية وتحتاج إلى تصويب كلماتها وحروفها، فليس بالضرورة أن تكون صحيحة على الدوام، فهناك حالات فى مصر والعالم أثبتت غير ذلك، فهناك طه حسين، هيلين كيلر، أندريا بوتشيلى، سيد مكاوى، عمار الشريعى، لويس برايل، وغيرهم كثير ممَن فقدوا أبصارهم وكانوا ملء السمع والبصر فى كتب التاريخ.
فقدان البصر قد يكون نعمة تميّز أصحابها عن غيرهم من المبُصرين، فلديهم شغف دائم للحياة والتقدم والاستمرارية، وغياب النظر لا يجعل الحياة فى خطر، فقد يكون لها جانب مميز من السعادة وتحقيق الذات.
إيمان: هذه حكايتى مع الإبصار
إيمان فوزى، تخرّجت فى قسم الاجتماع بآداب عين شمس وكانت أول إخصائيّة كفيفة تُمارس المهنة على مستوى الجمهورية فى مدرسة النور والأمل والتى درّست فيها.
تحكى إيمان قصتها لـ«روزاليوسف» قائلة: «ولدت مُبصرة، وفقدت بصرى تدريجيًا، ففى بداية الأمر، وجدت صعوبات التعايش مع هذا الأمر، فهى رحلة صعبة؛ لأننى فقدت أولى عينىّ أثناء المرحلة الابتدائية، وفقدت الأخرى فى مرحلة ما بعد الجامعة، والأمر يعد أكثر صعوبة من الشخص الذى يولد بفقدان البصر من البداية، لكننى اعتدت عليه سريعًا، فأنا عاصرت 3 مراحل: الإبصار، الإبصار المشوّش، وفقدان البصر؛ ما أكسبنى الخبرة وأصبحت أكثر تفهّمًا تمامًا لكل من أتعامل معه ومما لا شك فيه أن نظرة المجتمع السلبية بأن الشخص الكفيف لا يستطيع فعل أى شىء بمفرده، هى الدافع الأسوأ للكفيف نفسه، فتفتر عزيمته؛ ويردد جملة «أنا لا أستطيع»، بل إن نظرة الأهالى أنفسهم قد تشكل عائقًا أمام ثقة الكفيف بنفسه، فكل منا مميز بطريقة ما».
تضيف إيمان: «فى فترة إبصارى كنت دائمة شغوفة بالتعلّم والممارسة، وهو الأمر الذى ساعدنى كثيرًا فى تنمية موهبتى الطهى والأشغال اليدوية من أمى والمقربين، فهو الشعاع الأول وبصيص الأمل لتطور موهبتى، وكل نجاح لى كان دافعًا لنجاح أكبر، وتحول الأمر من تعلم إلى تعليم كفيفات معهد النور والأمل هذه المواهب، وغرس جانب الاعتياد الذاتى، والحرص على تخصيص رحلات لهن وتعليمهن الرسم من خلال ملامسة الأشياء بشكل حي؛ حتى يتسنّى لهنّ الرسم، وكان يتم عرض تلك المواهب فى المعرض كل عام».
مكفوفون ومبصرون: هزيمة بالستّة
تواصل: «عندما أتابع مع مشرفات المعهد وضع الفتيات، ويصبح لدىّ علم بأن فتاة ما تجد صعوبة بعمل شىء بمفردها، كنت أتواصل مع والديها حتى نصل لحل فعّال، وتخرج تلك الفتاة من المرحلة الابتدائية قادرة على فعل كل شىء دون الحاجة لمعاون، كما قمت بتشكيل فريق المرشدات للكفيفات وهو أول فريق فى مصر تقوده كفيفة، وحققنا الفوز 6 مرات على المبصرين، وأصبح الأمر أكثر تحررًا عندما تطوعت بجمعية رسالة، وبدأت بتعليم الفتيات الطهى والأشغال اليدوية بأبسط الأمور وبأقل تكلفة».
وأشارت: «بالرغم من أننى توقفت عن العمل منذ فترة طويلة لظروف زواجى ومن ثمّ السفر والعيش بأمريكا، إلاّ أننى قمت بعمل قناة على «يوتيوب» لتعليم الكفيفات الطهى من خلال التخيل، فأقوم بتسجيل الصوت، ثم شرح لما يجب عمله؛ لتيسيرالأمر عليهن فى ظل الأزمة الراهنة «أزمة كورونا العالمية، ومعظم المكفوفين لديهم الشغف بالتعليم والتدريب واستخدام الأجهزة الإلكترونيّة، فهى بمثابة بديل العين التى يدرك بها العالم الخارجى».
«إحنا واحد»: أحسن عرض
هادى جلال تخرج فى قسم الإذاعة والتليفزيون بإعلام القاهرة 2018، ممثل مسرحى، مقدم برامج فى فترة من الفترات على راديو أونلاين، وقناة الصحة والجمال وفضائية LMC: «بدأت التمثيل المسرحى منذ 2015، وقمت بأكثر من 8 عروض مسرحية وحصلت على جائزة أفضل ممثل فى المهرجان القومى للمسرح المصرى العام الماضى.
يحكى هادى لـ «روزاليوسف»: «بدأت تجربتى مع المسرح عندما قابلت مخرجًا ما فى جمعية، وأخبرته بموهبتى وحبى الشديد للتمثيل، وعندما تأكد من تلك الموهبة واجتيازى لاختبار التمثيل بدأ معى التدريبات اللازمة، وشاركت فى عرض بدار الأوبرا المصرية على مسرح الهناجر، وهذا المسرح الذى شهد أولى انطلاقاتى التمثيلية، المجال الذى فتح لى باب التعرف على المخرج محمد فؤاد، مخرج ومؤسس فرقة «إحنا واحد» وبفضله نضجت موهبتى بعد مشاركتى بتدريباته الخاصة للمكفوفين، ومساعدتنا فى كيفية التعامل مع المسرح من حيث الوقوف، والحركة الخفيفة الصحيحة بالمسرح، وحفظ كل جزء بداخله، وكنت أحفظ المشاهد من خلال اللاب بالشكل الناطق أو بطريقة برايل، وقبل كل عرض فى أى مسرح جديد كنا نأخذ جولة بكل ركن حتى نعرف كيف نتحرك فيه، كان الأمر فى بدايته صعبًا، لكن بالاعتياد لم تصبح الصعوبة ملحوظة، وحصلت الفرقة على جائزة أحسن عرض فى ملتقى أولادنا الدولى، وجائزة الفنان محمد صبحى فى الإبداع، وكنت بطلًا لذلك العرض، وبفضل تعاملاتى مع أكثر من مخرج ازددت خبرة وثقة وأصبحت أكثر قدرة على التلوين التمثيلى بسهولة ويسر، وأنا مدين بالفضل لكل من آمنوا بموهبتى من والدىّ وأصدقائى والجمهور والنقاد».
«زووم» ع كورونا
يضيف هادي: «بسبب الوضع الحالى الذى فرضته أزمة كورونا حول العالم، قمت بعمل بعض التسجيلات الصوتية موجّهة بصفة خاصة للمكفوفين بالتوعية ضد الفيروس التاجى، كما استكمل تواصلى مع فريق المسرح عبر تطبيق زووم، وتمكنا من تنفيذ بعض الفيديوهات ورفعها على موقع يوتيوب خلال شهر رمضان والعيد».
عازفة كلارينت: كورونا لم يعرقلنى !
أما فاطمة سيد، 19 عامًا، عازفة الكلارينت ذات المواهب الكتابية، والطالبة بالفرقة الأولى فى كلية الألسن قسم اللغة الإسبانية بجامعة عين شمس، فإنها انضمت إلى معهد الموسيقى وأصبحت ضمن أوركسترا معهد النور والأمل للكفيفات.
تقول فاطمة: «تجربتى مع الغناء كانت بالصدفة بعدما انضممت لمعهد النور والأمل، لكنها من أمتع تجاربى من خلال المشاركة بالحفلات العالمية فى فرنسا وسويسرا، كما كانت بدايتى مع الكتابة من سن صغيرة، وذلك بفضل القراءة الكثيرة لقصص الأطفال، فأصبحت عاشقة لذلك النوع من القصص وبدأت التجربة بالفعل وتميزت فيها، كما أننى أيضًا، أحب الغناء، لكننى لم أتدرب عليه، فأنا أحب الغناء فى الوقت الذى أحب فيه أن أغنى».
تضيف فاطمة: «لم تشكّل أزمة كورونا بالنسبة لى عائقًا كبيرًا، فالجلوس فى المنزل جعلنى أتمكّن من تنمية اللغة بشكل أفضل إلى حد ما، من خلال التعلم الذاتى على موقع يوتيوب، أو عن طريق حضور بعض الاجتماعات الإلكترونية على موقع زووم للتدريب بشكل أفضل على اللغة كما أن هذه الأزمة أتاحت لى البدء بكتابة رواية تحكى قصة بنت مغرورة ومتمردة قابلت معيدة لها بالجامعة تكره التسيّب، ثم تبدأ الأحداث بالتشابك والتطور».
إحباط البدايات
يقول أحمد رأفت، الطالب فى قسم اللغة الإسبانية بألسن عين شمس، إنه دائم الشغف بتعلم اللغات المختلفة والتأليف المقالى والقصصي: «أنا متفوق جدًا فى الدراسة، وبسبب حبى للغات اخترت الألسن مجالًا لدراستى، كنت أواجه صعوبات فى البداية؛ لأن أستاذ المادة كان يدخل ويبدأ حديثه بتلك اللغة ثم الكتابة، فلا أعرف ماذا يكتب، وكان هناك مَن يمد لى يد العون فيقومون بشرح مالا أراه، وأصبت بفترة إحباط فى البداية بسبب صعوبة تجميع المادة العلمية، وفكرت بالتحويل من الكلية، وتمنيت لو أننى أمتلك ولو القليل من النظر، لكن سرعان ما حاولت إزالة ذلك اليأس من خلال التعلم الذاتى من موقع «يوتيوب»، فأنا على عهد مع نفسى لأثبت أننى أستطيع، وأن الشخص الكفيف إنسان عادى يستطيع تحقيق النجاحات لو أتيحت له الفرصة، فأنا أتمنى أن أتعلم أكثر من 20 لغة».
كان التأليف القصصى والمقالى هو الملجأ لهروب أحمد رأفت من أى أزمة، فعندما يتلامس القلم مع يديه يقل ذلك الحزن رويدًا رويدًا، فقد ظهرت تلك الموهبة بشكل مبكر فى المرحلة الابتدائية، وبدأ بحفظ الأشعار والقصائد، وكان دائم التردد على المؤتمرات وحفلات للعباقرة.
يضيف أحمد: «أنا مدين بالفضل لجمعية رسالة؛ حيث تقوم بتحويل الكتب لى بطريقة برايل، وتسجيل قاموس «أسباني- عربى»؛ ما يجعل الأمر أكثر سهولة للحفظ والاستذكار، كما أنه وفّر لى الكثير من الوقت والجهد، وأنا أنتظر تحسن الوضع الراهن «أزمة كورونا» نوعًا ما حتى يتسنّى لى تعلم أكبر قدر من اللغات، وحاليًا أنا أكتفى بالتدريب البسيط على اللغة الإسبانية بمعاونة أصدقائى من خلال جروب على واتس آب، والتدريب على طريقة التحدث السليمة للغة الإسبانية»